عودة الدكتور مصطفى شمران إلى إيران في شباط 1979

عودة الدكتور مصطفى شمران إلى إيران في شباط 1979
الشهيد الدكتور مصطفى شمران
مخطوطة لبنان
ترجمة علي عبد الهادي جابر
أخيراً، عاد الدكتور مصطفى شمران إلى أرض الوطن بعد اثنين وعشرين عاماً من الهجرة والمنفى، يرافقه اثنتان وتسعون شخصية لبنانية، مفتتحاً هذه العودة بلقاء الإمام الخمينيّ، وكان أفضل رسول من لبنان حاملاً معه الكثير من أسرار وألغاز هذا البلد.
في الأشهر الأولى من عودته إلى إيران نُظمت له لقاءات عدّة لإلقاء سلسلة من الأحاديث في المحافل المختلفة، حيث كان محور خطاباته شجاعة وبطولة الشيعة اللبنانيين وما عانوه من مظالم وآلام وما قدّموه من تضحيات وشهداء.
لم يكن الدكتور شمران يجلس عاطلاً عن العمل للحظة، فهو إمّا يعمل، أو يقرأ، أو يكتب، حتى حينما كان يتأخّر عقد جلسة مّا بضع دقائق، كان يستفيد من هذه الفرصة القصيرة ويكتب، ويعبّر عن مكنوناته القلبية، فحيناً كان يناجي ربه (تبارك وتعالى)، وأحياناً علياً (ع)، وأحياناً أخرى الحسين (ع)، أو يؤرّخ حادثة، أو يُطلق العَنان لروحه الشاعرية والعرفانية، أو يطير بجَناحَي قلبه الملكوتيّ في سفر وصعود روحانيّين، وفي حين آخر يبيّن حقائق تاريخية ببساطة وصراحة، وفي أحيان أخرى يتحدّث عن آلامه وعذاباته وغمومه التي كانت جميعها آلاماً وعذابات اجتماعية وإنسانية عامة.
*جبل عامل محطّ غضب الحكام الظالمين من الأمويين والعباسيين والعثمانيين ثم المستعمرين الغربيين وأخيراً إسرائيل*
إنّني قادم من جبل عامل، الأرض التي حمَل صحابيّ الرسول الأكرم (ص) أبو ذر الغفاري (رضوان الله عليه) الإسلام الحقيقي إليها لأوّل مرّة، وبنى فيها مسجداً لعبادة الله يقع في بلدة ميس الجبل، ويشتهر حالياً باسمه الأبيّ.
إنّني قادم من جبل عامل، أرض التشيّع والولاية لعلي (ع)، وموطن مفاخر الشيعة الشهيد الأول والشهيد الثاني والشيخ بهاء الدين العاملي والعلماء والمفكّرين العظام الذين شعّت أنوارهم في أرجاء الدنيا.
إنّني قادم من جبل عامل، الذي تعرّض للظلم على مدى أربعة عشر قرناً من تاريخ الإسلام، وكان دائماً محطّ غضب وحقد الحكام الظالمين من الأمويين والعباسيين والعثمانيين، ثم المستعمرين الغربيين وأخيراً إسرائيل.
لقد عاش أهالي جبل عامل طويلاً تحت سياط ظُلم وجَور المتجبّرين والظالمين، الذين ارتكبوا بحقّهم المجازر الوحشية وفرضوا عليهم قيود الأسر والإذلال.
*جبل عامل يحترق بنيران المدافع والصواريخ الصهيونية*
إنّني قادم من جبل عامل، بلاد الشيعة المقدّسة، أمثّل المحرومين والمستضعفين في جنوب لبنان، الذين يحترقون يومياً بنيران المدافع الثقيلة وصواريخ الطائرات الإسرائيلية الصهيونية.
جئت من منطقة تعرّض جزء كبير منها لتدمير كامل، من قرى لم يبق فيها حتى جدار واحد سالم، من قرى نزح منها جميع أهلها، من مناطق أصبحت تحت سيطرة إسرائيل الظالمة وعميلها سعد حداد.
جئت من منطقة شُرّد أكثر من ثلاثماية ألف شخص من سكانها، تاركين بيوتهم وممتلكاتهم، وعاشوا حياة المسكنة في المساجد والمدارس والشوارع والأزقة.
*صرخة المعذّبين*
جئت لأرفع صرخات عذاب شيعة لبنان المدوّية تحت سماء إيران العالية، ولأوقظ ضمير الإنسان الملتزم والمسؤول.
جئت لأحكي قصة الآلام والحرمان والمظلومية وأنين الليالي وتضرّعات السحر، قصة دموع الأيتام وآهات الأرامل ولوعة المعذّبين.
جئت لأبدّد حُجب الظلام التي ألقت بظلالها كالسُّحب القاتمة على تفكير أمّتنا، وأبيّن لها الحقائق المريرة والأليمة لمعاناة شيعة لبنان.
جئت لأخبركم عن آلاف القتلى، وعن آلاف الجرحى والمعاقين، وعن آلاف المشرّدين الشيعة من جنوب لبنان، الذين يفترشون الأرض، ويلتحفون السماء، ويأوون إلى زوايا المساجد والمدارس وإلى قارعة الطريق.
جئت لأحدّثكم عن الآلام التي لم يخبركم أحد عنها حتى الآن.
ما جئت لأشكو، فالشعب الذي تحمّل ألفاً وأربعماية سنة من العذاب والألم، لا يزال مستعدّاً ليبذل روحه في هذا الطريق.
جئت لأدعو الله سبحانه كي ينصر الثورة الإسلاميّة في إيران.
جئت راجياً تجسيد العدل تحت ظلّ الحكومة الإسلاميّة، متأمّلاً زوال سيطرة الظلم والجور الإسرائيلي والاستعماري إلى الأبد.
ما جئت لأطلب شيئاً، لأنّ مَن قدّم كلّ وجوده للرسالة إنسان غير محتاج، بل جئت لأضحّي بنفسي حتى تنتصر رسالة الإسلام المقدّسة، وتُقتلع جذور الكفر والظلم والجهل إلى الأبد.
ما جئت لأشكو متوجّعاً من الاتّهامات والافتراءات والأذى والظلم والإساءة التي لحقتني من أبناء بلدي، فقد تطبّعت على هذا الظلم الكبير على مدى ألف وأربعماية عام من تاريخي، وأصبح تحمّل هذا التجنّي عندي أمراً عادياً.
إنّني أمثّل الصرخة المكبوتة في صدر جبل عامل الجريح على مدار قرون من الظلم والاضطهاد.
إنّني أمثّل ضجيج المعذّبين المقيّدين بالسلاسل، الذين سُحقوا تحت سياط التعذيب على مدار التاريخ.
إنّني أمثّل أنين اليتامى اليائسين المستيقظين وسط الليالي من شدّة الجوع، المفتقدين للعطف والحنان، الخائفين من ظلمة الليل الموحشة، المفتشين عن حضن دافئ يلجأون إليه.
إنّني أمثّل آهات الفجر النابعة من الصدور المحترقة للأرامل، أذهب برفقة نسيم السحَر إلى كلّ مكان، باحثاً عن القلوب والضمائر الحيّة، وعندما يصيبني التعب، وتعجز قدماي، وأشعر باليأس، وأفقد الأمل، أتحوّل إلى قطرة دمع، وأسقط كالندى في حضن الورقة.
*أمنية القلوب الحيّة والتوّاقة إلى العدل والعدالة*
إنّني أمثّل أمنية القلوب الحيّة والتوّاقة إلى العدل والعدالة، هارباً من هذه الدنيا المليئة بالظلم، معلّقاً الأمل على اليوم الذي ينتشر فيه القسط والعدل بظهور المهدي (عج) ويزول فيه الظلم والجور من هذا العالم.
إنّني أمثّل أمنية القلوب الوالهة، أتمنّى أن يعمّ العشق والحبّ كلّ مكان، ويزول الحقد والكراهية والتعصّب من على وجه الأرض.
*شاهد حيّ*
إنّني أمثّل دموع اليتامى الذين يبحثون بقلوب مكسورة عن آبائهم وأمّهاتهم، فالويل لوقت يبكي فيه يتيم، وترتعد فيه سماء لبكاء اليتامى.
إنّني أمثّل دماء الشهداء الجارية فوق الجبال الشاهقة وفي أعماق الأودية وعلى السهول الواسعة.
إنّني أبوح بمكنونات قلب محترق ينبض من أجل الحق والحقيقة، ويجاهد من أجل تحقيق العدل والعدالة.
إنّني شاهد حيّ على تضحيات رجال أحرار بذلوا أنفسهم عشقاً لله، والتحقوا بعالم الخلود.
إنّني راحل لأروي عطش فتية العالم حتى يقفوا بوجه الظلم ويجسّدوا حجّة الله على الأرض ولتستمرّ قافلة الشهداء المشرّفة.
إنّني أحتضن يومياً إخواني الشهداء، وأحملهم على كتفي إلى مثواهم الأخير. إنّ بيوتهم تحترق يومياً بنيران المدافع الإسرائيلية، فالقصف الإسرائيلي يخلّف المجازر ويقضي على شيعة جنوب لبنان.
إنّ شيعة لبنان يُقتلون ولكن لا أحد يعتبرهم شهداء، يصرخون ولا يسمع صراخهم أحد، يُبادون تحت سياط الظلم ولا يستيقظ وجدان لمصابهم.
*أغنى وأخبر مصدر حول لبنان وشيعة لبنان والإمام موسى الصدر*
يتّهمني البعض بأنّني متأثّر بالدول الخارجية، وأُعَرِّض مصالح إيران لسيطرة الأجانب، ويقولون لا بدّ من تركيز جهودي على إيران ولا داعي لكلّ هذا الاهتمام بلبنان والبلدان الأخرى.
*أولاً:* إنّ اهتمامي وقلقي الشديد يتركّز على إيران وليس على البلدان الأخرى، وأحاول أن أثبّت وجود مخاطر تهدّد ثورتنا، وأبيّن هذه القضايا من أجل حماية هذه الثورة.
*ثانياً:* لقد أمضيت ثماني سنوات في لبنان، سنوات مشقّة وخطر وجهاد وشهادة، وأفتخر لأنّني نظّمت أكبر حركة رسالية في لبنان، حركة المحرومين وحركة أمل اللّتين أسّسهما الإمام موسى الصدر، وواكبت جميع القضايا والأحداث السياسيّة والثورية في لبنان ومنطقة الشرق الأوسط، واطّلعت على ظروفها أكثر من أيّ شخص آخر، وكنت على علاقة ومعرفة بشؤون الشيعة أكثر من أيّ شخص آخر، وقلبي مجروح بسبب الجرائم والخيانات التي ارتُكبت بحقّ المحرومين الشيعة.
وإذا أراد أحد أن يعرف شيئاً عن لبنان وشيعة لبنان وعن الإمام موسى الصدر، فإنّني أغنى وأخبَر مصدر، وعلى استعداد لتقديم المعلومات الصحيحة، ولكنّني أتعجّب ممّن يبحثون في ما كتبه اليمين واليسار وعملاء الأجانب، ويستندون إلى أشخاص مشبوهين وغير رساليين، ولا يراجعونني مع أنّني كنت في قلب الأحداث.
وعندما أرى أنّ هناك مؤامرات تحاك، وأنّ بعض المشبوهين يحاولون سحق كرامات الشيعة والتعتيم على الحق والدفاع عن الباطل، أشعر بعدم جواز السكوت وبوجوب كشف الحقيقة، خصوصاً عندما يقوم أعداء الإسلام والتشيّع بنشر الكتب وبثّ الشائعات وتلفيق الاتّهامات فأضطرّ للرّد على ذلك.
إنّ أحاديثي لا تكشف حتى عن واحد بالمئة من مواقف وأفعال المعادين، وأتحسّر لأنّه لا يوجد عندي فرصة كافية حتى أشرح لكم الحقائق أكثر.
*ثالثاً:* يحاول البعض عن علم أو جهل أن يطرحوا أفكار وسياسات دول أخرى ومنظّمات خارجية، ويعتبرونها رائدة ونموذجاً للدولة الإسلاميّة الثورية، ومؤيّدة للثورة الإسلاميّة، ويوجد آخرون أكثر تطرّفاً يخطّئون ثورتنا ويعتبرون النماذج الخارجية أفضل منها وهذه جريمة كبرى.
إنّ الثورة الإسلاميّة المقدّسة في إيران هي ثورة أصيلة نقيّة يجب أن تكون قدوة للآخرين، لا أن يفرضوا عليها زيفهم الثوري وأساليبهم المخادعة ومراوغاتهم السياسيّة.
*مسؤوليتي كشف وبيان الحقائق*
إنّ مسؤوليتي هي كشف وبيان هذه الحقائق، فقد أمضيت سنوات طويلة أتابع السياسيّين المحترفين وأتصدّى لمواجهة مؤامراتهم وقد نصرَنا الله تعالى بفضل الاعتماد على نهج الإسلام الرسالي الأصيل.